تهويد الأسماء يقوم على محاكاة جذرها الكنعاني-الآرامي لتلفيق إرث عبري مزعوم في فلسطين
ثمة عناوين لم تقتنص اهتمامك من قبلُ، عند صدورها، ولا حتى بعدها بكثير، لكن الحدث السياسي يدفع موضوعها إلى الصدارة، إلى قلب دائرة الاهتمام، فتصير كأنها صدرت البارحة، أو الآن، لا قبل أعوامٍ أو أكثر.
ولعل الكتابات التي تتناول تهويد الأسماء العربية في فلسطين هي من ذلك النوع الذي اكتسى أهميةً متزايدة، بالأخص عقب قرار وزير المواصلات الصهيوني "إسرائيل كاتس" في صيف عام 2009 بتهويد أسماء المدن والقرى في فلسطين، بعد أن كان الاهتمام بجذر الأسماء العربية في فلسطين يبدو اهتماماً كمالياً مقتصراً على حفنة من المختصين وهواة اللغويات تقريباً.
كتاب "معجم أسماء المدن والقرى الفلسطينية، وتفسير معانيها ومدلولاتها السياسية والحضارية"، من تأليف محمد حسن شراب، وإصدار دار "الأهلية" في عمان عام 2000، وضِع عام 1999، أي قبل عشر سنوات من القرار الرسمي بتهويد الأسماء العربية في فلسطين. وهو ليس الكتاب الوحيد من نوعه.
فمشروع تهويد الأسماء العربية في فلسطين لم يبدأ عام 2009، بل قبل ذلك بعقود. ولا بد أن نبدأ هنا بذكر أم الموسوعات عن فلسطين، وهي موسوعة بلادنا فلسطين، لمصطفى مراد الدباغ، المتوفرة على الإنترنت، والمليئة بالمعلومات عن المدن والبلدات الفلسطينية.
لكن الموسوعات والمجلدات الضخمة تثير رعب عامة القراء، وليس التنقيب فيها أمراً مستحباً عند الأغلبية، ولذلك فإن كتباً صغيرة القطع لا تتجاوز صفحاتها ال240، مثل "معجم أسماء المدن والقرى الفلسطينية"، كثيراً ما تلفت أنظار المهتمين المبتدئين أكثر من المجلدات المهيبة.
مقدمة "معجم أسماء المدن والقرى الفلسطينية"، التي تزيد عن خمسين صفحة بقليل، تحتوي ربطاً وتلخيصاً شديد الأهمية للتواتر الحضاري لمنطقة بلاد الشام، ما بين العروبة القديمة والعروبة الحديثة التي تضافرت مع الإسلام.
فالكنعانية، ثم الآرامية، التي تمثل السريانية (لهجة يهود خيبر) إحدى مراحلها، ثم العربية القرشية، لهجة القرآن، كلها مشتقة من أرومة واحدة، وتشكل تسلسلاً طبيعياً.
ويدلل الكاتب على ذلك بأن العربية القرشية تفشت بسرعة على ألسنة أهل بلاد الشام بعد الفتح الإسلامي، "مع أن العرب الوافدين مع الفتح كانوا قلة قليلة بالقياس إلى عدد سكان بلاد الشام" (صفحة 14)، ونضيف أن العربية القرشية لم تطغَ على لسان الأقوام ذوي الأصول غير العربية بعد الفتح الإسلامي، كفارس أو تركيا أو غيرهما!.
ويوضح الكاتب أن أسماء تسعين بالمئة من المدن والقرى الفلسطينية والسورية واللبنانية والأردنية، مشتقٌ من جذرٍ كنعاني أو آرامي، وأن اليهود افتعلوا لهم لهجة هي آرامية أساساً مطعمة بشيءٍ من الكنعانية، أسموها لغةً عبرية، هي في الواقع لهجة مفبركة ولا يوجد لها أي دليل أو أثر تاريخي، بل تؤكد التوراة في سفر أشعيا 19/18 أن اليهود كانوا يتحدثون "شفة كنعان" (صفحة 27).
وبسبب التقارب بين "العبرية" المفبركة واللهجات الكنعانية والآرامية، فإن تهويد الأسماء بات يبدو وكأنه عودة بها إلى جذورها اليهودية الأصلية، مما قد يعطي انطباعاً مزيفاً بأن اليهود هم سكان فلسطين الأصليون! وهذا غير صحيح طبعاً، لأن العبرية لهجة مفتعلة أصلاً، والجذر الكنعاني والآرامي هو الأساس، مع الإشارة إلى أن المسلمين لم يغيروا الأسماء الكنعانية والآرامية إلا نادراً، ولو جرى تحويرها أحياناً لتوافق اللسان العربي العدناني (الصفحة 33)، ومع أنهم أطلقوا أسماء عربية عدنانية على المدن والبلدات الجديدة.
اللهجات العربية القديمة طبعاً هي أقدم لغة مدونة منذ بدء التاريخ، كما تدل مكتشفات "أوغاريت" رأس شمرا، والآثار المكتشفة في جزيرة كريت من ألفي عام قبل الميلاد، وغيرها.
كما أن التوراة نفسها مترجمة عن اللهجة الآرامية كما هو معروف... حتى أن لغة مخطوطات قمران هي الآرامية أساساً كما يشير أكثر من مرجع... لكن لا بد من التذكير بأن من ينكر الترابط العضوي، والتسلسل التاريخي، ما بين الكنعانية والآرامية والعربية القرآنية لا ينفي عروبة المنطقة ويحول الفتح لاحتلال فحسب، بل يؤكد المزاعم الواهية لليهود ما بين الفرات والنيل، أي أن هذه ليست مجرد قضية تاريخية أو أكاديمية، بل قضية سياسية راهنة.
ويقدم الكاتب هنا جداول وبيانات تظهر أن الوجود اليهودي الحديث في فلسطين طارئ جداً، وأن اليهود ازدادوا من خلال الهجرة إلى فلسطين في ظل العثمانيين من ثمانية آلاف في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى 24 ألفاً عام 1882، إلى خمسين ألفاً عام 1900، إلى 85 ألفاً عام 1914.
وها هي أسماء الأماكن في فلسطين، وبلاد الشام، وبقية أرجاء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، تشهد على عروبتها القديمة. وفي فلسطين بالتحديد، بما أن هذا موضوعنا هنا، تشهد كثيرٌ من أسماء المدن والقرى على كنعانيتها القديمة
مثلاً: رامة تعني المرتفعة، ومنها الرام، شمال القدس، ورام الله.
غزة بمعنى قوي، أو كنوز ومخازن.
يافا من الكلمة الكنعانية يافي، بمعنى جميل.
عكا من الكلمة الكنعانية عكو، بمعنى رمل حار.
عتليت في قضاء حيفا، بمعنى في حماية الليث (الأسد).
بيت لحم التي تعني بيت الخبز، وهي غير بيت لحم الحالية التي كان اسمها أفراته.
ويفيد "معجم أسماء المدن والقرى الفلسطينية" أن "أسماء الأمكنة والبقاع أكثر ما تكون وصفاً جغرافياً أو تسمية دينية، أو نسبة إلى أشخاص أو حوادث معينة أو نسبة إلى حيوان أو نبات... ومنها مثلاً "جبع"، وتعني ربوة أو أكمة، وكذلك "جبعة"... ومنها ما يدل على نوع التربة – كالجفاف أو القحط، أو الرطوبة، مثل "عقرون" إحدى المدن الفلسطينية القديمة، وهي "عاقر".
ومعنى الجذر الجفاف والجدب والنقب في جنوب فلسطين، ويجب أن تكون "النجب" بجيم مصرية... وأما التسمية الدينية، فتظهر في الأسماء المركبة خاصة، مثل "أور شاليم"، بمعنى بلد سالم. والكرمل: المركبة من الكرم بمعنى العنب وإيل، اسم إله... الخ...".
ويقف واضع "معجم أسماء المدن والقرى الفلسطينية" على نقطة شديدة الأهمية من الناحية السياسية وهي أن "دراسة اشتقاق الأسماء – أسماء الأماكن – ونسبتها إلى لغتها، ونسبة اللغة إلى أهلها، وبيان تاريخ أهل هذه اللغة، يحكم بالأقدمية لشعب من الشعوب، ويحدد من هو الغازي، ومن هو المغزو.
فقد تفقد الشعوب استقلالها السياسي وتنقرض لغتها، ويندمج الشعب المغلوب بالغالب، ولا يبقى من آثار المغلوب إلا بقايا من اللغة وفي أسماء المدن والقرى إذ أن هذه الأسماء تبقى شاهداً على تعاقب الشعوب، وشاهداً على المؤسس الأول" (الصفحة 31).
ولكن لا بد من الإشارة، بالرغم من أهمية الجهد الحميد الذي بذله الأستاذ محمد حسن شراب، أن عملية التهويد لا تقوم فقط على العودة إلى الجذور الكنعانية والآرامية لأسماء المدن والقرى الفلسطينية، للإيحاء بإرث يهودي مزعوم في المنطقة، بل إن هنالك تهويداً جديداً مفتعلٌ تماماً، وبلا جذور تاريخية ولو كنعانية أو آرامية قديمة.
وقد وثق لهذه النقطة بالتحديد د. يحي جبر، في كتابه "الأعلام الجغرافية الفلسطينية بين الطمس والتحريف"، من منشورات وزارة الإعلام الفلسطينية عام 1995. وهو كتاب نعيب على مقدمته أنها تؤكد على الرغبة ب"السلام" مع من يهودون الأسماء العربية في فلسطين، وتطرح القضية كأنها قضية "تمييز عنصري" في موضعٍ ما، بالرغم من أن تغيير أسماء المدن والقرى الفلسطينية هو في صلب الصراع التناحري مع بني يهود على تعريف الهوية الثقافية لأرض فلسطين، كما هو بديهي!.
بالرغم من ذلك، يقدم كتاب "الأعلام الجغرافية الفلسطينية بين الطمس والتحريف" معالجة جيدة لآليات تزوير الأسماء (الصفحات 6 – 9)، ومن ذلك أنها تبدأ من الترجمة الحرفية للاسم العربي إلى اسم عبري حديث، مثلاً:
جبل الزيتون تصبح: هار هزيتيم. وهناك أيضاً تحريف الاسم العربي ليلائم اسماً عبرياً، عن طريق تغيير حرف أو أكثر بأخر، سواءٌ أدى ذلك لنفس المعنى أم لا، مثلاً، خربة أم دومانة التي غدت ديمونة، وسهل عارة الذي أصبح بقعات عيرون.
وهناك أيضاً إطلاق اسم يهودي حديث على مستعمرة مقامة على مقربة من قرية عربية مدمرة أو مهجرة، للإيحاء بأن الوجود اليهودي في تلك المنطقة قديم جداً، مثلاً، كفار سابا المقامة على بعد كيلومترين من بلدة كفر سابا المدمرة. وأحياناً يتم تغيير الاسم العربي بالكامل، مثلاً، الخالصة التي أصبحت كريات شمونة.
باختصار، يمثل تهويد الأسماء امتداداً للبعد الثقافي للصراع، الصراع على هوية الأرض، لب القضية، وشتان ما بين ذلك وبين "النضال" للحصول على "حقوق مواطنة متساوية في إسرائيل"، أو للحصول على "دولة مستقلة" إلى جانب "إسرائيل"!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المركز الفلسطيني للإعلام